كانت تجلس قبالتي ترتشف من قهوتها الساخنة رشفات قليلة وكأنها تستبطئ إنتهاء الفنجان الساخن الشهي، وكانت ملامحها الجميلة الأرستقراطية تزداد فتنة وهي تحدثني بألم عن حكايتها فتقول:
تزوجت بعمر السابعة عشرة وكان وقتها يكبرني بسبعة عشر عاما كانت تخلق بيننا علاقة تشبه علاقة الأب بإبنته ولا تشبه في تفاصيلها علاقة زوجين صديقين، فكل إنتقاداته صحيحة ولا مجال للإعتراض عليها، وكنت لصغر سني وغربتي معه بعيداً عن أهلي وصديقاتي أتقبل كل ما يقوله وكأنه أية منزَّلة ودون أن أجرؤ حتى على مجرد التفكير فيها أو في صحتها.
وافقته على كل ما كان يطلبه، وتقبلت آراءه وأفعاله، ومضيت معه في مشوار العلاج الذي طلبه فقبلت أن أعمل تلك العملية التي شق فيها الطبيب بطني قبل أن أتجاوز سن العشرين ودون أن يعلم أهلي بها أيضاً.
بعد خمس سنوات وبعد حملة شنتها والدته وأخواته ووالده الذي طالما تغنى بصداقته العميقة لوالدي وطالما قال بأنه يعتبرني واحدة من أفراد أسرته، وعندما علم بموعد زفاف أختي أسرع يعد حقائب سفري ولم يزعجه أن أقطع برنامجي العلاجي الجديد الذي كنت قد بدأت به عند طبيب جديد بعد فشل كل البرامج الشاقة السابقة، وعادت أسرته برفقتي وأودِعتُ في منزل أهلي بحجة ضرورة وجودي بجانب والدتي وأختي الوحيدة في تلك الأيام الهامة التي تسبق حفل زفافها للمساعدة في ترتيب حقائب الجهاز.
كنت أذهب في زيارات إلى بيت أهله في أوقات متقاربة، وكانت تصلني دعوات كثيرة منهم لتناول وجبات الإفطار معهم وتناول الغداء في مزرعتهم الجديدة، وكنت أُدعى أيضا لحضور تلك الزيارات النسائية التي تذهب إليها والدته وكانت تكثر من تدليلي أمام الناس وتكثر أيضا من الثناء على أناقتي ورشاقتي ولباقتي، وكنت أفرح فرحاً حقيقيا لرؤيتها، ثم بدأت تصل أهلي أخبار بحثهم وترددهم على بيوت الصبايا للبحث عن عروس غيري ولم يخبرني أحد عن هذا بالطبع.
لم تخبرني والدته أنها تطلب غيري من الفتيات للزواج من إبنها ولم تقل أنها كانت تخبرهم عن عجزي عن إنجاب طفل له وقد بلغ الأربعين من عمره وأنه كبيرهم ويتمنى والده بشوق أن يرى أطفاله أمام عينيه.
وبعد حفل زفاف أختي وبينما كنت أجوب الأسواق لشراء ملابس تعجبه وتحف صغيرة دمشقية أزين بها أركان منزلنا فاجأتني والدتي برفضها لذهابي إلى دعوة الغداء التي وجهتها لي والدته صباح ذلك اليوم، وأخبرتني بحزن أنني بت مطلقة وأن والده حضر ليشرح لصديقه الحميم والدي عن أشواقه لرؤية أحفاده.
بكيت وقتها كثيرا وظننت أن الله تعالى أراد لي محنة لن أتحملها وبدأت رحلة طلب المؤخر وبادلوني هم أيضا بمماطلة ومناقشات طويلة وصلت إلى حد طلب الفتاوى الشرعية في حقي في الحصول عليه لأنني لم أنجب وسؤال رجالات القانون عن هذا الحق، وكان جواب الجميع بأن مؤخر الصداق من حقي كاملا ولكنهم بدءوا بالمماطلة أيضا.
بعد شهور تقدم لي زوجي الثاني وبدأت أحزاني تتبدل بفرح راح يغمرني، ثم إضطررت لتوقيع تنازل عن حقي في مؤخر الصداق ليتم تسجيل طلاقي في المحكمة ولأتمكن من عقد قراني على زوجي الجديد ولكن قلبي كان يدعوا عليهم ويخبرني بأن الله لابد ناصري.
أنجبت طفلتي الأولى بعد عام واحد، وتوفي صديق والدي ووالد طليقي قبل أن يعلم بأن زوجة ابنه الجديدة حامل، وعلمت فيما بعد بأن الزوجة الجديدة كانت تعرف كيف تتعامل معهم بكبريائها الذي إشتهرت به.
اشترى لي زوجي سيارة ولم يخل بيتي من خادمة، وكنت أنعم بكرمه ومحبته وتقديره، ثم رزقت بابنتي الثانية ونسيت تلك المحنة بل وحمدت الله عليها لأنه خلصني من تعب كان سيرافقني بصحبته طوال عمري.
صمتت صديقتي وهي ترتشف آخر رشفة من ذلك الشراب السحري الأسود، وكنت أبتسم لها وأتخيل عظم تلك المنحة التي رزقها الله إياها مع ما لها من مظهر قاس صعب، وإبتسمت بدورها للخادمة التي دخلت علينا بأطباق المعجنات ثم راحت تسرد عليَّ أيضا مقادير العجين وطريقة صنعها كانت رائعة المذاق حقا وكان الأروع منها هو تلك القصة التي أنعشت مشاعر السرور في نفسي لأننا مؤمنون بتلك العدالة الإلهية التي لابد وأن تنتصر للمظلوم مهما عظم الظلم أو طالت مدته.
الكاتب: عبير النحاس.
المصدر: موقع رسالة المرأة.